سورة الأنفال - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{ليحق الحق} أي ليظهر ما يجب إظهاره وهو الإسلام {ويبطل الباطل} أي الكفر، {ولو كره} أي وكراهتهم واقعة فهي جملة في موضع الحال، وقوله: {إذ تستغيثون ربكم} الآية، {إذ} متعلقة بفعل، تقديره واذكر إذ وهو الفعل الأول الذي عمل في قوله {وإذ يعدكم} [الأنفال الآية: 7] وقال الطبري: هي متعلقة ب {يحق.. ويبطل}.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يعمل فيها {يعدكم} [الأنفال: 7] فإن الوعد كان في وقت الاستغاثة، وقرأ أبو عمرو بإدغام الذال في التاء واستحسنها أبو حاتم، و{تستغيثون} معناه تطلبون، وليس يبين من ألفاظ هذه الآية أن المؤمنين علموا قبل القتال بكون الملائكة معهم، فإن استجاب يمكن أن يقع في غيبه تعالى، وقد روي أنهم علموا ذلك قبل القتال، ومعنى التأنيس وتقوية القلوب يقتضي ذلك، وقرأ جمهور الناس أني بفتح الألف، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر بخلاف عنه إني بكسر الألف أي قال إني، و{ممدكم} أي مكثركم ومقويكم من أمددت. وقرأ جمهور الناس {بألف} وقرأ عاصم الجحدري {بئألف} على مثل فلس وأفلس فهي جمع ألف، والإشارة بها إلى الآلاف المذكورة في آل عمران، وقرأ عاصم الجحدري أيضاً {بآلاف} و{مردفين} معناه متبعين، ويحتمل أن يراد المردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة ف {مردفين} على هذا حال من الضمير في قوله {ممدكم} ويحتمل أن يراد به الملائكة أي أردف بعضهم بعض غير نافع {مردِفين} بكسر الدال وهي قراءة الحسن ومجاهد والمعنى فيها تابع بعضهم بعضاً وروي عن ابن عباس خلف كل ملك ملك، وهذا معنى التتابع يقال ردف وأردف إذا أتبع وجاء بعد الشيء، ويحتمل أن يراد مردفين المؤمنين.
ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم بعضاً، ومن قال: {مردفين} بمعنى أن كل ملك أردف ملكاً وراءه فقول ضعيف لم يأت بمقتضاه رواية، وقرأ رجل من أهل مكة رواه عنه الخليل {مرَدِّفين} بفتح الراء وكسر الدال وشدها.
وروي عن الخليل أنها بضم الراء كالتي قبلها وفي غير ذلك، وقرأ بعض الناس بكسر الراء مثلهما في غير ذلك، حكى ذلك أبو عمرو عن سيبويه، وحكاه أبو حاتم قال: كأنه أراد مرتدفين فأدغم وأتبع الحركة ويحسن مع هذه القر اءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة، وأنشد الطبري شاهداً على أن أردف بمعنى جاء تابعاً قول الشاعر [خزيمة بن مالك]: [الوافر]
إذا الجوزاءُ أردَفَتِ الثُّرَيَّا *** ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونا
والثريا تطلع قبل الجوزاء وروي في الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر، واختلف في غيره من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: لم تقاتل يوم بدر وإنما وقفت وحضرت وهذا ضعيف، وحكى الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: نزل جبريل في ألف ملك على ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف ملك في المسيرة وأنا فيها، وقال ابن عباس: كانا في خمسمائة خمسمائة، وقال الزجّاج: قال بعضهم: إن الملائكة خمسة آلاف، وقال بعضهم: تسعة آلاف، وفي هذا المعنى أحاديث هي مستوعبة في كتاب السير، وقوله تعالى: {وما جعله الله} الآية، الضمير في {جعله} عائد على الوعد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي أمكن الأقوال من جهة المعنى، وقال الزجّاج: الضمير عائد على المدد، ويحتمل أن يعود على الإمداد، وهذا يحسن مع قول من يقول إن الملائكة لم تقاتل وإنما أنست بحضورها مع المسلمين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي ضعيف ترده الأحاديث الواردة بقتال الملائكة وما رأى من ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كابن مسعود وغيره، ويحتمل أن يعود على الإرداف وهو قول الطبري، وهذا أيضاً يجري مجرى القول الذي قبله ويحتمل أن يعود على الألف وهذا أيضاً كذلك، لأن البشرى بالشيء إنما هي ما لم يقع بعد، والبشرى مصدر من بشرت، والطمأنينة السكون والاستقرار وقوله {وما النصر إلا من عند الله} توقيف على أن الأمر كله لله وأن تكسب المرء لا يغني إذا لم يساعده القدر وإن كان مطلوباً بالجد كما ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، وهذه القصة كلها من قصة الكفار وغلبة المؤمنين لهم تليق بها من صفات الله عز وجل العزة والحكمة إذا تؤمل ذلك.


العامل في {إذ} هو العامل الذي عمل في قوله {وإذ يعدكم} [الأنفال: 7] بتقدير تكراره لأن الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف، وإنما القصد أن تعدد نعمة الله تعالى على المؤمنين في يوم بدر فقال: واذكروا إذ فعلنا كذا وقال الطبري: العامل في {إذ} قوله {ولتطمئن} [الأنفال: 10].
قال القاضي أبو محمد: وهذا مع احتماله فيه ضعف، ولو جعل العامل في {إذ} شيئاً قريباً مما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في {إذ} {حكيم} [الأنفال: 10] لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمنة حكمة من الله عز وجل، وقرأ نافع {يُغْشيكم} بضم الياء وسكون الغين وهي قراءة الأعرج وأبي حفص وابن نصاح، وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر والكسائي {يغَشِّيكم} بفتح الغين وشد الشين المكسورة وهي قراءة عروة بن الزبير وأبي رجاء والحسن وعكرمة وغيرهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {يَغشاكم} بفتح الياء وألف بعد الشين وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وأهل مكة {النعاسُ} بالرفع، وحجة من قرأ {يغشاكم} إجماعهم في آية أحد على {يغشى طائفة منكم} [آل عمران: 154]، وحجة من قرأ {يغشيكم} أن يجيء الكلام متسقاً مع {ينزل}، ومعنى {يغشيكم} يغطيكم به ويفرغه عليكم، وهذه استعارة و{النعاس} أخف النوم وهو الذي قد يصيب الإنسان وهو واقف أو ماشٍ، وينص على ذلك قصص هذه الآية أنهم إنما كان بهم خفق في الرؤوس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا نعس أحدكم في صلاته» الحديث، وينص على ذلك قول الشاعر [ابن الرقاع]: [الكامل]
وسنان أقصده النعاس فرنّقت *** في عينه سِنَةٌ وليس بنائم
وقوله {أمنة} مصدر من أمن الرجل يأمن أمناً وأمنة وأماناً، والهاء فيها لتأنيث المصدر كما هي في المساءة والمشقة، وقرأ ابن محيصن {أمْنة} بسكون الميم وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله، وهو في الصلاة من الشيطان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما طريقه الوحي فهو لا محالة إنما يسنده، وقوله {وينزل عليكم من السماء ماء} تعديد أيضاً لهذه النعمة في المطر، فقال بعض المفسرين وحكاه الطبري عن ابن عباس وغيره، وقاله الزجّاج: إن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك، فقال بعضهم في نفوسهم- بإلقاء الشيطان إليهم- نزعم أنَّا أولياء الله وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالنا هذه والمشركون على الماء، فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهروا وسقوا الظهر.
وتدمثت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين، وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل الطش تلبدت قالوا: فهذا معنى قوله {ليطهركم به} أي من الجنابة، {ويذهب عنكم رجز الشيطان} أي عذابه لكم بوساوسه المتقدمة الذكر والرجز العذاب، وقرأ أبو العالية {رجس} بالسين أي وساوسه التي تمقت وتتقذر، وقرأ ابن محيصن {رُجز} بضم الراء، وقرأ عيسى بن عمر {ويذهبْ} بجزم الباء، {وليربط على قلوبكم} أي بتنشيطها وإزالة الكسل عنها وتشجيعها على العدو ومنه قولهم: رابط الجأش أي ثابت النفس عند جأشها في الحرب {ويثبت به الأقدام} أي في الرملة الدهسة التي كان المشي فهيا صعباً.
قال القاضي أبو محمد: والصحيح من القول وهو الذي في سيرة ابن إسحاق وغيرها أن المؤمنين سبقوا إلى الماء ببدر، وفي هذا كلام حباب بن المنذر الأنصاري حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أول ماء، فقال له حباب: أبوحي يا رسول الله هو المنزل فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو عندك الرأي والمكيدة؟ الحديث المستوعب في السيرة.
قال القاضي أبو محمد: ولكن نزول المطر كان قبل وصولهم إلى الماء وذلك أن القوم من المؤمنين لحقتهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء قريب بدر فصلوا كذلك فوقع في نفوسهم من ذلك، ووسوس الشيطان لهم في ذلك مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقتلهم، وهذا قبل الترائي بالأعين، وأيضاً فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر فتحرضوا هم أن يسبقوهم إليه فأنزل الله تلك المطرة فسالت الأودية فاغتسلوا وطهرهم الله فذهب رجز الشيطان وتدمت الطريق وتلبدت تلك الرملة فسهل المشي فيها وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى الماء، ووقع في السير أن ما أصاب المشركين من ذلك المطر بعينه صعب عليهم طريقهم، فسر المؤمنون وتبينوا من جعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم، فطابت نفوسهم واجتمعت وتشجعت، فذلك الربط على قلوبهم وتثبيت الأقدام منهم على الرملة اللينة فأمكنهم لحاق الماء قبل المشركين.
قال القاضي أبو محمد: هذا أحد ما يحتمله قوله {ويثبت به الأقدام} والضمير في {به} على هذا الاحتمال عائد على الماء، ويحتمل أن يعود الضمير في {به} على ربط القلوب فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب، وبين أن الرابط الجأش تثبت قدمه عند مكافحة الهول.
قال القاضي أبو محمد: ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس ولم يترتب ذلك في الآية إذ القصد فيها تعديد النعم فقط، وحكى أبو الفتح أن الشعبي قرأ {وينزل عليكم من السماء ماء} ساكنة الألف {ليطهركم به} قال: وهي بمعنى الذي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وقرأ ابن المسيب {ليطْهركم به} بسكون الطاء، وقوله تعالى: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة} الآية، العامل في {إذ} العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها، ولو قدرناه قريباً لكان قوله {ويثبت} على تأويل عود الضمير على الربط، وأما على عوده على الماء فيقلق أن تعمل {ويثبت} في {إذ} ووحي الله إلى الملائكة إما بإلهام أو بإرسال بعض إلى بعض، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه {إني معكم} بكسر الألف على استئناف إيجاب القصة، وقرأ جمهور الناس {أني} بفتح الألف على أنها معمولة ل {يوحي}، ووجه الكسر أن الوحي في معنى القول، وقوله {فثبتوا} يحتمل أن يكون بالقتال معهم على ما روي.
ويحتمل بالحضور في حيزهم والتأنيس لهم بذلك، ويحتمل أن يريد: فثبوتهم بأقوال مؤنسة مقوية للقلب، وروي في ذلك أن بعض الملائكة كان في صورة الآدميين فكان أحدهم يقول للذي يليه من المؤمنين: لقد بلغني أن الكفار قالوا لئن حمل المسلمون علينا لننكشفن، ويقول آخر: ما أرى الغلبة والظفر إلا لنا. ويقول آخر: أقدم يا فلان، ونحو هذا من الأقوال المثبتة.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أيضاً أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان بلمته من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويوقي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى: {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} وإن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل يجيء قوله {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} مخاطبة للملائكة، ثم يجيء قوله تعالى: {فاضربوا فوق الأعناق} لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت حرباً لمن تخاطبه لقينا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك، أي هذه كانت صفة الحال.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون {سألقي} إلى آخر الآية خبراً يخاطب به المؤمنين عما يفعله في الكفار في المستقبل كما فعله في الماضي، ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعاً لهم وحضاً على نصرة الدين، وقرأ الأعرج {الرعُب} بضم العين والناس على تسكينها، واختلف الناس في قوله {فوق الأعناق}، فقال الأخفش {فوق} زيادة، وحكاه الطبري عن عطية أن المعنى فاضربوا الأعناق وقال غيره بمعنى على، وقال عكرمة مولى ابن عباس: هي على بابها وأراد الرؤوس إذ هي فوق الأعناق، وقال المبرد: وفي هذا إباحة ضرب الكافر في الوجه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل أنبلها، ويحتمل عندي أن يريد بقوله {فوق الأعناق} وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها، هي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل، وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمة السلمي حين قال له خذ سيفي وارفع به عن العظم واخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال، ومثله قول الشاعر: [الوافر].
جعلت السيف بين الجيد منه *** وبين أسيل خديه عذارا
فيجيء على هذا {فوق الأعناق} متمكناً، وقال ابن قتيبة {فوق} في هذه الآية بمعنى دون، وهذا خطأ بين، وإنما دخل عليه اللبس من قوله تعالى: {ما بعوضة فما فوقها} [البقرة: 26] أي فما دونها.
قال القاضي أبو محمد: وليست {فوق} هنا بمعنى دون وإنما المراد فما فوقها في القلة والصغر فأشبه المعنى دون وال {بنان} قالت فرقة: هي المفاصل حيث كان من الأعضاء، فالمعنى على هذا واضربوا منهم في كل موضع، وقالت فرقة: البنان الأصابع، وهذا هو القول الصحيح، فعلى هذا التأويل وإن كان الضرب في كل موضع مباحاً فإنما قصد أبلغ المواضع لأن المقاتل إذا قطع بنانه استأسر ولم ينتفع بشيء من أعضائه في مكافحة وقتال.


هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون داخلون فيه بالمعنى والضمير في {بأنهم} عائد على الذين كفروا، و{شاقوا} معناه خالفوا ونابذوا وقطعوا، وهو مأخوذ من الشق وهو القطع والفصل بين شيئين، وهذه مفاعلة فكأن الله لما شرع شرعاً وأمر بأوامر وكذبوا هم وصدوا تباعد ما بينهم وانفصل وانشق، مأخوذ من هذا لأنه مع شقه الآخر تباعدا وانفصلا وعبر المفسرون عن قوله {شاقوا} أي صاروا في شق غير شقه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وإن كان معناه صحيحاً فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذكرناه، والمثال الأول إنما هو الشَّق بفتح الشين، وأجمعوا على الإظهار في {يشاقق} إتباعاً لخط المصحف، وقوله {فإن الله شديد العقاب} جواب الشرط تضمن وعيداً وتهديداً، وقوله تعالى: {ذلكم فذوقوه} المخاطبة للكفار، أي ذلك الضرب والقتل وما وأوقع الله بهم يوم بدر، فكأنه قال الأمر ذلك فذوقوه وكذا فسره سيبويه، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون {ذلكم} في موضع نصب كقوله زيداً فاضربه، وقرأ جمهور الناس وأن بفتح الألف، فإما على تقدير وحتم أن. فيقدر على ابتداء محذوف يكون أن خبره، وإما على تقدير واعلموا أن، فهي على هذا في موضع نصب، وروى سليمان عن الحسن بن أبي الحسن وإن على القطع والاستئناف، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً} الآية، {زحفاً} يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص، أي يزحف بعضهم إلى بعض، وأصل الزحف الاندفاع على الألية ثم سمي كل ماش إلى آخر في الحرب رويداً زاحفاً، إذ في مشيته من التماهل والتباطؤ ما في مشي الزاحف، ومن الزحف الذي هو الاندفاع قولهم لنار العرفج وما جرى مجراه في سرعة الاتقاد نار الزحفتين ومن التباطؤ في المشي قول الشاعر: [البسيط]
كأنهنَّ بأيدي القومِ في كَبدٍ *** طير تكشف عن جون مزاحيف
ومنه قول الفرزدق: [البسيط]
على عمائمنا تُلقى وأرجلنا *** على مزاحيف تزجى مخها رير
ومنه قول الآخر [الأعشى]: [الطويل]
لمن الظعائن سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ ***
ومن التزحف بمعنى التدافع قول الهذلي: [الوافر]
كان مزاحف الحيّات فيه *** قبيل الصبح آثار السباط
وأمر الله عز وجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين فالفرض أن لا يفروا أمامهم، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع الأكثر من الأمة، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب اله عز وجل: وهذا قول جمهور الأمة، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة: يراعى أيضاً الضعف والقوة والعدة فيجوز على قولهم أن تفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة، لأنها بشعة على الفار ذامة له، وقرأ الجمهور {دبُره} بضم الباء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {دبْره} بسكون الباء، واختلف المتأولون في المشار إليه بقوله {يومئذ} فقالت فرقة الإشارة إلى يوم بدر وما وليه، وفي ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فر، ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف، وبقي الفرار من الزحف ليس بكبيرة وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم، وقال فيهم يوم حنين:
{ثم وليتم مدبرين} [التوبة: 25] ولم يقع على ذلك تعنيف.
قال القاضي أبو محمد: وقال الجمهور من الأمة: الإشارة ب {يومئذ} إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله {إذا لقيتم} وحكم الآية باق لى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى، وليس في الآية نسخ، وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه، وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف أمام الكثرة، ويحتمل أن عفو الله عمن فر يوم أحد كان عفواً عن كبيرة، و{متحرفاً لقتال} يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدو وأعود عليه بالشر ونصبه على الحال، وكذلك نصب متحيز، وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم {من}، وقال قوم: الاستثناء هو من أنواع التولي.
قال القاضي أبو محمد: ولو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفاً وتحيزاً، والفئة هاهنا الجماعة من الناس الحاضرة للحرب هذا على قول الجمهور في أن الفرار من الزحف كبيرة، وأما على القول الآخر فتكون الفئة المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وأنه قال: أنا فئتكم أيها المسلمون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا منه على جهة الحيطة على المؤمنين إذ كانوا في ذلك الزمن يثبتون لأضعافهم مراراً، وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجماعة فرت في سرية من سراياه: «أنا فئة المسلمين» حين قدموا عليه، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اتقوا السبع الموبقات» وعدد فيها الفرار من الزحف، و{باء} بمعنى نهض متحملاً للثقل المذكور في الكلام غضباً كان أو نحوه، والغضب من صفات الله عز وجل إذا أخذ بمعنى الإرادة فهي صفات ذات، وإذا أخذ بمعنى إظهار أفعال الغاضب على العبد فهي صفة فعل، وهذا المعنى أشبه بهذه الآية، والمأوى الموضع الذي يأوي إليه الإنسان.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8